زكي السالم
انتفضنا من رقدَةٍ ( كغرقَى من سفينةِ سندباد ) كما قال صديقي العذبُ السيّاب ونَفضنا عنّا مـا علقَ فِينَا من هجعةٍ كهفيةٍ ، فنادانا هاتفٌ : من زارَ الاسكندرية ولم يذقْ ملوحةَ بحرِها فقد باءَ بنَدمٍ ولات حين ندم ، فسرنا إلى البحر كالعاشقين نفتضُّ رملتَهُ الندية ونداعبُ رضراضَ حصاهُ وتُبللنا قَطَراتُه الدافئة .
كان الجوُّ في هذه الأيام اليونوية - نسبة ليونيو الشامخ - معتدلاً ميّالاً للبرودةِ شيئاً مـا وندى قطراتِ البحر تنفحُ وجوهنا وخشومنا و( نغانيغنا ) ونحنُ كطرزانٍ قديم بمايوهاتنا وبزعيقنا والرمالُ الصفراءُ تقطعُ استرسالَ نسماتِ الرذاذِ الحالمة ، كان مشهدُ البحرِ مغرياً بغَنَجاتِ موجاته وكأنه يفتحُ ذراعيهِ لحضنةٍ دافئةٍ فنزلنا فيهِ نزولَ مشتاقٍ متلهفٍ غير أن هذا الهدير من أمواجه وهو يرفعنا أمتاراً ويلقي بنا قتلَ فينا هذه النشوةَ وصيّرنا في لهاثٍ دائمٍ تعلقاً بالحياة وتشبثاً بالنجاة فقد كُنَّا كبحارةِ كولمبوس كل همنا الشاطىء النائي .
لا تستطيع وأنت بهذه الجنة الغناء في هذا الفندق الحالم وعلى هذه الرمال الندية إلا أن تقطعها جيئة وذهاباً حافي القدمينِ وهذا مـا دعانا أن نجوب هذه الرمال في طريقنا لمطعم ناءٍ لنأخذ قسطنا من الغداء .
الاسكندرية وإن بعدت عنا حوالي خمسين كيلو إلا أن شوق لقياها يختصر المسافة حيثُ دخلناها على حين غفلةٍ من أهلها في أحد الأيام نبتغي أكلة سمك في مطعمٍ شعبيّ فوجدنا مطعماً شعبياً سمّاهُ صاحبُه على لوحةٍ طولها عشرون متراً ( هو دا الحاج شعبان بتاع السمك اللي بيقولوا عليه ) فاحترنا من أيّهما نعجبُ أمن لذيذ طعمه أم اسمه المختزل حدّ التبذير ولكن ولربّنا فيما براهُ شؤونُ .
يا سُبْحَان ﷲ كلما أدهشتنا أيّامُ الاسكندرية جمالاً وروعةً وانبساطاً كدّرتنا أخبارُ أهلنا بالدمام وهم يزيلونَ ركامَ مأساةِ هذا التفجيرِ الأرعن وهذا اليوم بالذات كان يوم تشييعِ الشهداءِ في عرسهم البهيّ إلى جنةٍ الخلدِ ونعيمٍ لا يبلى ، بكينا وجعاً وغضبنا حنقاً وانتشينا فرَحاً فهذه القوافلُ المباركة ستظلّ ترقلُ في سيرِها للخلد الأبدي .
في اليوم الرابع من وصولنا الاسكندرية غادرنا الفندق فجراً للمطار في طريقنا لشرم الشيخ وبالمناسبة - لستُ أدري هنا لِمَ سموه شرم الشيخ ومن هو هذا الشيخ هل لأنّ أبرهة الأشرَم مرّ من هنا فَسُمِّي شرم ووُصف أبرهة بالشيخ ثمّ مُزجا ليصبحا شرم الشيخ أو أن هناك سبباً آخر ﷲ أعلم ، وإن كنتُ شخصياً أميل لهذا السبب - المهم بعد أن ودَّعنا محسناً ركبنا طائرنا الميمون و بعد أربعين دقيقة تزيد سنة أو تنقص سبعة أشهر وصلنا شرم الشيخ فانقلب بردُنا حرّاً ونسمتُنا صرصراً وغيمُنا شمساً لاهوباً ولكن حُسن منظر المدينة وجمالها أعاد قلوبنا نديّةً طَرِيَّة كما كانت ..
وللحديث بقية
