زكي السالم
كانت الاسكندرية مقصدَنا الثاني بعد القاهرة ، ففي صباحٍ نسائمه عليلة انطلقنا نَحْنُ الخمسة رفقة محسن لمحطة القطار وصلناها والوقت قد بلغ التراقي فحثثنا السير خوفَ جنحة انطلاقه بدوننا وتلك مصيبة المصائب و داهية الدواهي عليه طبعا ، حال بلوغنا عرباته اندحشنا في درجته الأولى حينها امتطاها أحدُ الباعة وأخذ طلبات الركاب بسرعة البرق دون أن يدونها ثم مـا أسرع أن عاد بها كلها لم ينس شيئا البتة وبعد نصف ساعةٍ عاد ليلتقط نقوده منّا بذاكرة حديدية ، غريبةٌ قدرةُ العقل البشري على اختزال وترتيب كل مـا يمرُّ بهِ مهما قلّ شأنُه وكثرت تفاصيلُه .
الطريق بالقطار للإسكندرية شاعريٌّ بكل مـا تحمله الكلمة من معنى فهو يخترقُ أطياناً وحقولاً بوفرة مياهها وكثافة شجرها واصطفاف الفلاحين فيها صفّاً بربطة المعلّم تحسهم رجلاً واحداً في رجال شتّى وكأنهم كاساتُ ورق كلٌّ في بطن أخيهِ كانوا سيمفونية متسقة وفسيفساءَ منتظمة .
وصلنا محطة الاسكندرية وكانت شركةُ النقل التي نسقنا معها مسبقاً قد أرسلت سائقها ليُقلنا لفندق ( إيبروتل ) القصيّ حيث يبعد عن المحطة حوالي 45 كم وفِي الطريق إليه مررنا بمنطقة الملاحات والتي صُوِّرت فيها أحداثُ نهاية فيلم الكيف وبما أني ومحسن كنا نردد على الدوام جملة نور الشريف لمحمود عبد العزيز ( حقها وإلا مش حقها ) بلكنة مصرية محببة وكنا نضحك منها على الدوام كلما استحضرناها لموقف نمر به وها نَحْنُ الآن نمر على الملاحات بجلالة قدرها فاستدعيناها هنا بكل تفاصيلها المضحكة .
وصلنا الفندق فاعتذروا بأدبٍ جَمٍ أن غرفنا سُلمتْ لقروبٍ أجنبي وأنهم سيعوضوننا بما هو أرقى وأونق وسيُنزلوننا بشاليهاتٍ مثلنا محترمةٍ ورشيدةٍ ، إلا أني انتفضتُ انتفاضةَ كِسعيٍّ قديم كرامةً لنا حين انتابني شعورُ أن هذا القروب مُستعمرٌ جديد جَاءَ ليَمتصَّ خيراتِنا ويُقعدنا ( مخوزقين ) على الحديدةِ ويُذيق بَعضَنا بأس بعض ثم لا نعودُ كما كنا كراماً بررةً جليلي القَدْر والقُدرة ، فهدَّأَ محسنٌ روعي وأزال ذلك الكبرياءَ الأجوفَ مني بقولِهِ إنني سكنتُ هذا الفندق قبلاً وأعرفُهُ غرفةً غرفة وداعوساً داعوسا إذ نزلتُ وأنا أؤكدُ لك ولأمثالِكَ من المُتفيهقينَ أن شاليهاتَِهِ تفوقُ غرفَه مراتٍ عِدّة ، هنا سكتْ غضَبي وانتفختُ انتفاخةَ ديكٍ روميٍّ وأيقنتُ أَنِّي قهرتُ مُستَعمراً لم تستطعْ قُوى الأَرْضِ جميعَاً قهرَه .
الشاليهاتُ مُلحقةٌ بالفندق ومرصوصةٌ كبُنيانٍ نضيدٍ جنبَ بعضها تحيطُها رمالٌ نديّةٌ بِكرٌ لم يفتضها ثقالُ دمٍّ أمثالنا وتتناثرُ حولها - بالطريقِ المؤديةِ للبحر - حماماتُ سباحةٍ عدّة كبرى وصغرى فكأنّنا في فيلّةٍ عُظْمَى مساحتُها ، خَضِرَةٌ أغصانُها ، منهمرٌ ماؤُها فهي فعلاً جنةُ ﷲِ في أرضه .
بعد أن اقتسمنا الغرف حيثُ يوسف و محمد بغرفة وصالح وَعَبَد ﷲ بغرفة وأنا ومحسن بغرفة وبعد سفرٍ طويل غرقنا ساعةً كالموتى في نوم عميق .
و للحديث بقية
زكي السالم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق