العلامة الشيخ حسين المصطفى
مفهوم التعايش:
الإسلام دينٌ عالميٌ يسعى برسالته إلى البشرية كلها، تلك الرسالة التي تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم وتُرسي دعائم السلام والمحبة في الأرض، وتدعو الى التعايش الإيجابي بين البشر جميعاً في جو من الإخاء والتسامح بين كلّ الناس بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم. فالجميع ينحدرون من (نفس واحدة): {يا أيُّها النّاسُ اتّقُواْ ربّكُمُ الّذِي خلقكُم مِّن نّفْسٍ واحِدةٍ} النساء:1.
وعالمنا اليوم في أشد الحاجة إلى التسامح الفعّال والتعايش الإيجابي بين الناس أكثر من أي وقت مضى؛ نظراً لأنّ التقارب بين الثقافات، والتفاعل بين الحضارات يزداد يوماً بعد يوم بفضل ثورة المعلومات والاتصالات والثورة التكنولوجية، التي أزالت الحواجز الزمانية والمكانية بين الأمم والشعوب، حتى أصبح الجميع يعيشون في قرية كونية كبيرة.
والإسلام دين يسعى من خلال شريعته وتعاليمه إلى تربية المؤمنين به على التسامح إزاء كلّ الأديان والثقافات. فقد خلق الله الناس جميعاً ليكونوا خلفاء في الأرض التي نعيش فوقها، وجعلهم شركاء في المسؤولية عنها، ومسؤولين عن عمارتها مادياً ومعنوياً: {هُو أنشأكُم مِّن الأرْضِ واسْتعْمركُمْ فِيها} هود:62. أي طلب منكم عمارتها وصنع الحضارة فيها. ومن أجل ذلك ميّز الله الإنسان بالعقل وسلّحه بالعلم ليكون قادراً على أداء مهمته وتحمل مسؤولياته في هذه الحياة.
ويوجّه القرآن الكريم خطابه الى العقل الإنساني الذي يعد أجلّ نعمة أُنعم بها على الإنسان، فعليه أن يستخدم عقله الاستخدام الأمثل، وفي الوقت نفسه يطلب القرآن من الإنسان أن يمارس حريته التي منحها الله له والتي هي شرط ضروري لتحمل المسؤولية. فالله سبحانه لا يرضى لعباده الطاعة الآلية التي تجعل الإنسان عاجزاً عن العمل الحر المسؤول. ذلك أن (القوة) لا تؤثر في عالم القلب والوجدان، والمشاعر والأحاسيس، وإنما ينحصر تأثيرها في الأعمال الظاهرة والحركات البدنية المادية، قال تعالى: ﴿ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي ِّ﴾. فعلى الإنسان اذن ان يحرص على حريته وألا يبددها فيما يعود عليه وعلى الآخرين بالضرر.
ومن شأن الممارسة المسؤولة للحرية ان تجعل المرء على وعي بضرورة اتاحة الفرصة أمام الآخرين لممارسة حريتهم أيضاً، لأن لهم نفس الحق الذي يطلبه الإنسان لنفسه. وهذا يعني أنّ العلاقة الإنسانية بين أفراد البشر هي علاقة موجودات حرة يتنازل كل منهم عن قدرٍ من حريته في سبيل قيام مجتمع إنساني يحقق الخير للجميع. وهذا يعني بعبارة أخرى ان هذا المجتمع الإنساني المنشود لن يتحقق على النحو الصحيح الا اذا ساد التسامح بين أفراده، بمعنى ان يحب كل فرد للآخرين ما يحب لنفسه.
ولقد ضرب الإمام علي (ع) أروع أمثلة التعايش مع المخالف له في المنهج، من خلال موقفه الرسمي كخليفة مع من حاربه:
١- عن جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه (ع): "أَنَّ عَلِيّاً (ع) لَمْ يَكُنْ يَنْسُبُ أَحَداً مِنْ أَهْلِ حَرْبِهِ إِلَى الشِّرْكِ وَلَا إِلَى النِّفَاقِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هُمْ إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا" ( قرب الإسناد: ص 94 ح 318).
٢- وسُئِلَ علِيٌّ عن أهْلِ الْجمَلِ (وفي رواية عن أهل النهروان)؟ قال: قيلَ: أمُشْرِكُونَ همْ؟ قال: "من الشّرْكِ فرُّوا"، قيلَ: أمُنَافِقُونَ همْ؟ قال: "إنَّ الْمُنافِقِينَ َلاَ يذْكُرُونَ اللهَ إلاَ قلِيلاً"، قيلَ: فَمَا هم؟! قال: "إخْوانُنَا بغَوْا علَيْنَا"(مصنف ابن أبي شيبة: ج 7 ص 535 حديث 37763 و ص 563 حديث 37942؛ سنن البيهقي: ج 8 ص 174 حديث 16499).
٣- عندما أراد (ع) أن يبيِّن موقفه من أهل الشام الذين خرجوا ضده، نراه (ع) لم يصف موقفهم واختلافهم اختلافاً في عقيدة أو دين، بل هو محض اختلاف سياسي في دم الخليفة عثمان بن عفان، فمن كتاب له (ع) كتبه إلى أهل الأمصار يقصُّ فيه ما جرى بينه و بين أهل صفين: "وَكَانَ بَدْءُ أَمْرِنَا أَنَّا الْتَقَيْنَا وَالْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّنَا وَاحِدٌ، وَنَبِيَّنَا وَاحِدٌ، وَدَعْوَتَنَا فِي الْإِسْلَامِ وَاحِدَةٌ، وَلَا نَسْتَزِيدُهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالتَّصْدِيقِ بِرَسُولِهِ، وَلَا يَسْتَزِيدُونَنَا، الْأَمْرُ وَاحِدٌ إِلَّا مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ وَنَحْنُ مِنْهُ بَرَاءٌ"(نهج البلاغة: كتاب 58).
هذه هي روح الإسلام التي زرعها رسول الله صلى الله عليه وآله في أمته بل نشرها للعالم كله {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق