بقلم الشيخ / حسين المصطفى
كان رسول الله (ص) إذا خلا في بيته ألين الناس، وأكرم الناس، كان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان ضحاكاً بسَّاماً، وما كان إلا بشراً من البشر، كان يكون في مهنة أهله -يعني خدمة أهله- يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته<.
إنّ دور النبي (ص) هو تبليغ الرسالة، كما حدّثنا الله تعالى به، فالله تعالى أرسل رسوله من أجل أن يبلّغ الرسالة كاملة غير منقوصة، ويهيّئ الظروف الملائمة التي تؤمِّن امتداد هذه الرسالة من بعده في المستقبل.
وفي مثل هذه المناسبات علينا أن نركز على تهذيب حياتنا من خلال ما أدبه الرسول (ص) لأهل بيته ولأصحابه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.
فالتربية تعني البناء الذي تُحدثه الأجيال الراشدة في الأجيال النامية لمساعدتها حتى تعيش حياةً اجتماعية سوية وقوية.
وهي >علمُ صناعة الإنسان< أي أنّ الإنسان يُصنع ولا يولد، وهي قائمة على أساس أنّ >الإنسان يولد صفراً، فيتفاعل فيكتسب فيتشكل<.. {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
إذن التربية هي جملة السلوكيات التي يغرسها كائن إنساني بوعي في كائن إنساني آخر، بشرط أن يكون لدى الأول الخبرات، ولدى الأخير الاستعداد الكامل لتقبل غايات وأهداف الأول.
إنّ جوانب النجاح والتميز في أي منهج تربوي نتعرفه من خلال مراجعة أهداف هذا المنهج أو أساليبه أو محتواه، ونستطيع أن ندرك تميز المربي من خلال مراجعة ممارسته التربوية. إلا أنّ أهم الدلائل على نجاح المنهج التربوي وتميز المربي يكمن في مخرجاته وآثاره التربوية، فالناس كثيراً ما يستشهدون على حسن تعليم فلان من الناس بما تركه على طلابه، وحين يرون أبناءً متميزين يدركون أنّ وراءهم أمّاً أو أباً أحسنوا تربيتهم.
وفيما يخصّ الهَدْي النبوي في التربية، فإننا حين نطّلع على أي صفحة من صفحات السيرة النبوية أو نمعن النظر في مرحلة من مراحلها فسنجدها شاهدة على حسن تلك التربية وتميزها.
وبقي أن نفتح أبصار البصائر على هذه المعاني العظام:
1- (ما كان إلا بشراً من البشر) فهو (ص) لا يدخل بيته قائداً أو زعيماً أو .. ولكنه الزوج الذي يعيش حياة السكن الزوجي مع أهله. فعظمته (ص) أنه يعيش بساطة الحياة الأسرية وعفويتها فلا ترى الزوجة فيه إلا الزوج الرحيم، وهو سيد ولد آدم.
2- (كان يكون في مهنة أهله) وهنا نتساءل: هل كانت زوجاته (ص) يشكين كثرة العمل ومشقته حتى يكون عمله (ص) في بيوتهن معونة وخدمة لهن؟! كلنا يعلم كم هي مساحة حجرات زوجاته، كانت حجراتهن متقاربة الجدر صغيرة المساحة بحيث لم يتجاوز طولها 5 أمتار، وعرضها 5و3 متر.. وفي بعض الأحيان تمضي الشهران بتمامها وما أُوقد فيها نار لطعام يصنع، فهل يوجد عمل يحتاج إلى جهد فضلاً عن أن يحتاج إلى معونة بحيث يكون النبي (ص) في بيته مشغولاً بمهنة أهله؟!!
ولكنها المواساة في الحياة الزوجية وتحقيق أحد معاني السكن إلى الزوجة {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}، ولم يقل لتسكنوا معها.
إنّ هذه الأعمال اليسيرة في المنـزل تصل إلى قلب الزوجة ممتزجة بمعاني الحب والمودة والرحمة، وتشعر الزوجة بالدنو القريب إلى زوجها، والامتزاج الروحي والعاطفي. وإنّ معاني الالتحام الزوجي تنسجها هذه اللمسات المعبرة، فيكبر في عين زوجته بقدر تواضعه، ويعظم في نفسها بقدر بساطته.
عن الرضا، عن آبائه G: قال رسول الله (ص): >خَمْسٌ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى الْمَمَاتِ: الْأَكْلُ عَلَى الْحَضِيضِ مَعَ الْعَبِيدِ، وَرُكُوبِيَ الْحِمَارَ مُؤْكَفاً، وَحَلْبِيَ الْعَنْزَ بِيَدِي، وَلُبْسُ الصُّوفِ، وَالتَّسْلِيمُ عَلَى الصِّبْيَانِ لِتَكُونَ سُنَّةً مِنْ بَعْدِي<.
3- إننا نطل من هذه النافذة على البيت النبوي فنراه صغيراً في مساحته، بسيطاً في متاعه ولكن الخلق النبوي العظيم جعله وعاءً كبيراً مترعاً بالأنس والبهجة، ويتدفق ينبوع غامر من السعادة والإبهاج (كان ضحاكاً بساماً). فليس في بيته تزمت ولا تجهم ولا عبوس، ولكنه الحياة الطيبة التي تملأ البيت سروراً.
4- إنّ هذه المشاركة المعبرة والإيناس المبهج سوف يجعل من الزوج يحتل مساحة كبرى في قلب زوجته ووجدانها. فعلى الذين يشتكون برودة الحياة الزوجية وجفافها أن يتعلموا من أنّ الدماء تتدفق حارة في حياتهم بمثل هذه اللمسات الساحرة.
5- يبهرنا هذا التوازن في الحياة النبوية فقد كان (ص) مع الناس أكثرهم تبسماً، وكان في بيته ضحوكاً بساماً، وكان مع الناس كالريح المرسلة بالخير، وكان خير الناس للناس، وخيرهم لأهله. إنّ هذا التوازن يفتقد عند أناس يبذلون المجاملات الرقيقة بسخاء في تعاملهم العام، ولكنهم يخزنون العبوس لزوجاتهم، مع أنهن أولى الناس بالبشر وحسن الخلق، أما نبينا (ص) فقد وسع الناس بحسن خلقه وكان أهل بيته أسعد الناس بهذا الخلق.
6- هذا الدرس النبوي رسالة مفتوحة إلى كل من أساء فهم القوامة واختصرها في التعالي الأجوف، أو بسط مظاهر التسلط بحيث لا يرى إلا مقطباً، ولا يسمع إلا آمراً أو محذراً.
من هنا نقول: الحياة الزوجية رحلة طويلة تتحقق فيها السعادة والهناء إذا أخلص كل من الزوجين وابتغى بعمله وجه الله، فابتسامة الزوج تضفي إشراقة على الأسرة، وابتسامة الزوجة تدخل السرور على الزوج، وتكريس كل منهما وقته وجهده في سبيل إسعاد الآخر مما يعين على بقاء هذه اللبنة وامتدادها على مر السنين والأعوام، فالزوجان هما دعامة الأسرة وسر سعادتها.
ولا تتحقق السعادة في الأسرة إلا بالعمل على البذل والتضحية ونكران الذات، وشيء من الأناة وسعة التفكير وإذابة أي مشكلة قد تعترض هذا العش الهانئ، فالأسرة هي ركيزة المجتمع فإذا سعد بناء الأسرة سعد المجتمع كله؛ لأنّ الإنتاج يكون سليماً، وإن سلم نتاج الأسر من الأبناء سلم المجتمع ككل، وإذا عرف الزوجين عبء هذه المسئولية وخطورتها شمر كل منهما عن ساعد الجد لتنشئة جيل مسلم نقي السريرة قوي الإيمان ثابت البنان، لا تهزه الأعاصير ..
نصائح للأزواج:
وعلى ضوء ما جاء من الهدي النبوي يمكننا أن نوجه نصائح للأزواج في هذا السياق:
1. تفهم الرجل لنفسية الزوجة: فقد تتعرض المرأة في كثير من الأحيان لضغوط نفسيه سواء من أطفالها وكثرة متطلباتهم وتعليمهم أو مشاكل أسرية تتعلق بأسرتها أو مرض جسدي كالآم الدورة الشهرية... كل ذلك يحتاج إلى تفهم من الزوج وتقدير لهذه الظروف؛ فيشعرها باهتمامه بها وحبّه لها، مما يزيح الكثير من آلامها.
2. احترام الزوج للزوجة: وأخذ رأيها في كثير من أمور الأسرة يشعرها بأهميتها وأنّها جزء من كيان هذه الأسرة وموافقتها والثناء على رأيها وامتداحها، مما يعزز ثقتها بنفسها، فتكنُّ بذلك الاحترام والود والحب لزوجها، وبذلك تشعر الزوجة بالطمأنينة والاستقرار مما ينعكس على تصرفها وسلوكها مع زوجها وأطفالها.
3. مساعدة الزوج لزوجته في أعمال البيت: اقتداء بالرسول الكريم (ص) ولو بالقليل فإنه يضفي على جو البيت بهجة ويشعر الزوجة بتقدير زوجها لها فيسعدان معا بهذه المشاركة.
4. الثناء والمديح من الزوج لزوجته: في ما تقوم به من أعمال داخل البيت أو في المطبخ، وفي طريقة لبسها، وأسلوب تربيتها لأولادها أو أسلوب تعاملها مع الآخرين، كل هذا مما يدخل السرور والسعادة إلى نفسها وفي الحديث >أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِ<، فكيف بمن هي أحب الناس إليه زوجته.
5. الكلمة الطيبة والابتسامة المشرقة: لها أثر عظيم في إسعاد الزوجة كما قال الرسول (ص): >الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ<، وقال (ص): >لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ اَلْمَعْرُوفِ شَيْئًا, وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ<، وقال (ص):>تبسمك في وجه أخيك صدقة<.. فكم لهذه الابتسامة من الزوج من أثر على نفسية الزوجة، وكم من كلمة طيبة تسعد الزوجة وتزيل آلامها وتشحذ همتها في إسعاد هذه الأسرة.
6. العناية بالنظافة الشخصية والاهتمام بحسن المظهر: فكما يحب الرجل أن يرى زوجته في صورة حسنة يحصن بها نفسه، فكذلك الزوجة {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.
7. احترام أهلها: وإظهار التقدير والإكرام لهم، وعدم ذكرهم أمامها إلا بالخير، وقدوته في ذلك رسول الله (ص) فقد كان يكرم أهل خديجة (ع) حتى بعد وفاتها، عن السيدة عائشة قالت: >ما غرت على أحد من نساء النبي (ص) ما غرت على خديجة، وما رأيتها قط، ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يُقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم تكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟! فيقول (ص):>إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد<.
8. إذا أردت أن تعاتب فلا تفعل أمام الآخرين، والأبناء على وجه الخصوص، ولا توجه لها ألفاظ قد تجرح مشاعرها، أو تقارنها بغيرها من النساء، واعلم أنّ مشاعر المرأة مثل الزجاج شفافة، حساسة، سهلة الخدش والكسر، لذلك قال (ص): >رفقاً بالقوارير<.
9. الحزم في القضاء على أي مشكلة قد تحدث بين زوجته وأهله وعدم السماح لأي طرف منهما التدخل في شؤون الطرف الآخر، وضرورة احترام كل منهما للطرف الآخر، وذلك في بداية الحياة الزوجية حتى يسد باباً لا يغلق لو ترك.
10. لا يجبرها على زيارة أهله بطريقة دورية وإنما يترك لها اختيار الوقت المناسب لزيارتهم.
11. احرص على أن تحصل زوجتك على ما تحتاجه من العلوم الدينية والعلوم الدنيوية النافعة، لأنّ ذلك سينعكس على فكرها وسلوكها وعلى حسن تربيتها للأبناء، وقد حرص رسول الله على ذلك.
12. تقديم الهدية المناسبة للزوجة تعبيراً عن حبه لها وتقديره لها مما يقوي أواصر المحبة بين الزوجين وقد قال رسولنا الكريم (ص): >تَهَادَوْا تَحَابُّوا<.
13. القيام برحلات انفرادية مما يتيح للزوجين الجلوس سوياً بعيداً عن جو البيت فيوثق ذلك عرى المحبة بينهم.
المساندة نجاح لقيمومتك:
يسعى الزوجان لتحقيق المساندة عبر المواقف والسلوكيات المختلفة ومن ذلك:
1- الدعم المعنوي والتشجيع للطرف الآخر. وأن يتحدث الطرفان عن بعضهما باعتزاز وثقة وحب واحترام.
2- الدعم المادي، خاصة وقت الأزمات، فإذا مرَّ الزوج بأزمة مالية تسعى الزوجة لمساندته بأموالها، فإن لم تجد فعليها أن تسعى للتخطيط المحكم للتقليل من النفقات والمصروفات، وكذلك الزوج يدعم زوجته مادياً وقت الأزمات، ويحرص كليهما على تقديم الهدايا، وما يمكن أن يعبر عن التقدير والمساندة.
3- حفظ الأسرار الخاصة بالطرف الآخر وأسرار العلاقة الزوجية؛ حتى يشعر كل طرف بالأمان داخل إطار العلاقة.
4- أن يسعى كلّ طرف للتعرف على أحلام الطرف الآخر وأهدافه المستقبلية، وتشجيعه على تحقيقها.
5- تقدير المشاعر والمحافظة عليها، والبعد تماماً عن طرق وأساليب الإحباط اللفظية منها والفعلية.
6- الإيمان بقدرات الطرف الآخر، والسعي للتعرف على مواطن القوة والضعف بها، فتُبرز مواطن القوة ويُفتخر بها، وتعالج مواطن الضعف وتقوى بأساليب حكيمة.
7- التعرف على ميول وهوايات الطرف الآخر والسعي لتوفيرها والمشاركة بها إن أمكن ذلك.
8- الحرص على تحقيق المشاركة في الممارسات اليومية الاعتيادية مثل: تناول الطعام، الاستذكار للأبناء..
9- تقويم الخطأ وتحقيق المناصحة بين الطرفين، وهذا جانب هام في تحقيق المساندة، فكثير من الأزواج يتجنب مصارحة الطرف الآخر بأخطائه وتوجيهه خوفاً من توتر العلاقة، متناسين قول الرسول (ص): >انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا<، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟! قَالَ: >تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ<، وقد يسعى آخرون للمناصحة والتوجيه بأسلوب غير مناسب. فالمساندة تعني الحرص على توجيه وتقويم الطرف الآخر والأخذ بيده بأسلوب يتسم بالحكمة والرفق واللين.
10- الحرص على مشاركة الطرف الآخر في بعض أعباءه ومسئولياته.
11- التغاضي عن بعض التقصير في الحقوق وعن الهفوات في التصرفات.
12- الشورى والاستماع للرأي الآخر وتقديره.
إنّ ثمار تحقيق المساندة يجب ألا تتوقف على تحقيق أمن الأسرة واستقرارها وسعادتها الدنيوية بل يمكن أن يمتد وفق نهج الإسلام الحكيم إلى السعادة الأخروية في جنة الخلد، برحمة الله تعالى، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق