
علي عيسى الوباري
اقوي عوامل التربية و السلوك المؤثرة في الأمم هي ما تنتج من مبادئهم الدينية و مورثوهم التاريخي و الثقافي و تجاربهم ، لأنها نابعة من مواقف أصيلة مدعومة من قيم و مثل دينية و نظريات فكرية و تربوية متراكمة تتجسد في الأقوال و الأفعال و الممارسات الحياتية ، و تتأصل هذه القيم في شخصية المرء حتى تصبح اعتقادا صلبا من الصعب بل من المستحيل تغييره ، لان هذا المعتقد تغرسه و تعززه التوجيهات و التعليمات الدينية المتمثلة بأحاديث نبوية و روايات دينية و تقوى هذه المعتقدات و الثقافة بتأكيد صحتها بمرور الزمن و بعقلانية مبادئها و قيمها ، بانطباعها على شخصية معتنقها بحيث تصبغ شخصية المؤمن بها صياغة واعية تجيد التعامل مع الأحداث و التغييرات من حوله ، خصوصا إذا كان هناك أداة تذكر و تستنبط معانيها و قيمها و ملائمتها لكل زمان و مكان ، تجدد وهج الحادثة بشكل دائم و تعيد ضخ دماء جديدة في عروق الحدث التاريخي و تبين هذه الوسيلة ما يستجد من وقائع و أحداث بحيث تتواكب هذه الحادثة مع حوادث العصر ، و تبين تداعيات التغييرات المتسارعة ، هذا سر قوة الأداة التي تحلل و تترجم و تفسر الأحداث المتغيرة مع واقعة الطف من خلال المنبر الحسيني فوجود الوسيلة التي بقيت صامدة في ظل التطورات العصرية من وسائل حديثة مواكبة للعصر بشكل جذاب. المنبر الحسيني هو خطيب و حضور يقف بشكله التقليدي و جوه الروحاني المغذي للخطاب الحسيني شامخا يؤدي دوره من سلسلة ادوار يتحملها المنبر الحسيني ، لولاه ما بقيت هذه الثورة الحسينية بعطائها الروحي و المعنوي رغم استحداث أدوات أخرى مثل المسرح و الفضائيات و وسائل تقنية الاتصالات التي سيطرت على عقول الكثير ، ألا إن بقاء المنبر صامدا و متجددا في قلوب الموالين يستنشقون هواء معانيه و يشمون رحيقه المبثوث من روح مفجر كربلاء و صانعها سيد الشهداء أبي عبدا لله عليه السلام هو احد أسرار واقعة الطف .
إن المنبر الحسيني المتكون من قاعة و منبر يتفاعل فيها الخطيب مع المستمعين ) المرسل و المستقبل ( يكون القاسم المشترك بينهم الإحساس و العاطفة و قواسم الأفكار و الأهداف و الرؤى تعززها المعاني والمبادئ التي تتجدد سنويا بذكرى المصيبة .
و لأهمية هذا الصرح العظيم نشير إلى الإشكالية في نص الخطاب الحسيني و مضمونه المتكون من مجموعة مفردات وكلمات و معاني يتلقها الحضور و المتفاعلين باستمرار، مطلوب من الخطيب أن يحاكي القضايا العصرية و استيعاب المستجدات من أحداث و تغييرات في جميع أمور الحياة ، أيضا الربط المادي و الروحي ما بين الأصالة و الحداثة في زمن كثرت مصائبه و تعددت أحداثه و تميز بتسارعه الذي يفرض على المرء نسيان مأساة أمسه لشدة مصيبة يومه ، هذا التحدي الحقيقي في مضمون الخطاب المنبري على مجتمع أثقل بأولويات المعيشة و الأمان .
ما نحتاجه من خطاب المنبر الحسيني أهداف متنوعة و متجددة لمعالجة الهموم الحياتية و الاجتماعية ، كذلك إسقاط مواقف واقعة الطف الملهمة للنفوس و الهمم بالمناعة الروحية و الواقية من السقوط في مستنقعات المغريات المادية، من هنا ينبغي أهمية التمييز في خطاب المنبر الحسيني ما بين سرد القصص و الوقائع كما هي أو إخراجها بمضمون فكري و منهج علمي تفكك النصوص و تدقق في الكلمات و المعاني لتفسير الأحداث العصرية و تفرز دلالات النصوص و الأحداث التاريخية و ربطها بعضها ببعض برؤية اجتماعية مشتركة ، و ليس بمنظور شخصي فردي تنتجه شخصية الملقي على المستقبل بحيث يفرض رؤيته الأحادية في عصر الأحكام الجماعية و القرارات المؤسساتية و الديمقراطية ، مما اعتبره الكثير احد إشكاليات خطاب المنبر الحسيني الحديثة المفروضة من رؤية أحادية تحولت إلى وصاية على الفرد و المجتمع ، نتجت عنها سلبيات على المتلقي ، أو على الأقل فقدت حلقة التغذية المرتدة و الاستجابة للخطاب .
إن التفسير الأحادي و فرض الرؤية الفردية لا تتناسب مع معطيات المنهج العلمي في مناسبة تهم الجميع و يتفاعل معها بشكل جماعي ، حيث يأمل الموالي بتحليل علمي و منهجي لإحداثها و تفسيرها للأحداث العصرية ، و كيفية استيعابها لكل ما يستجد من أحداث و مصائب في عصرنا الحديث ، يفترض من الخطيب الحامل هموم بيئته الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية متفاعل بأحاسيسه و شعوره العاطفي و العقلي مع جمهور المستمعين أن يتمكن من تحليل النصوص و الوقائع المصاحبة لمصيبة الطف .
إن إدماج النص و ما يحمله من معاني و مواقف نابعة من الحدث التاريخي و إسقاطه على الأحداث العصرية المشابهة التي تنسجم مع واقعة الطف هو الفن المؤثر في الخطابة الحسينية التي تجذب المستقبل و تستحوذ على عقله و عاطفته بحيث يتزامن الفكر و القلب في ترجمة المعاني و المثل السامية و العاطفة الجياشة المخلصة من حادثة نعيش بها و تعيش في كياننا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق