عادل البشراوي
هناك تقرير جديد يتحدث عن اكتشاف سلالة جديدة من أسلاف البشر, وأنها قد عاصرت "لوسي" أو (Australopithecus afarensis) ويحدد عمر الأحافير المكتشفة بـ 3.3 إلى 3.5 مليون سنة مضت, وهو تقريبا نفس الفترة التي عاش فيها نوع لوسي.
يقول رئيس فريق البحث د. يوهانس هايلا سيلاسي (Dr. Yohannes Haile-Selassie) أنه يتوقع الكثير من الإعتراض على المكتشف الجديد, لأنه قد لايتوافق مع بعض الفرضيات الحالية. وهو يضيف بأن هذا الواقع طبيعي في الأوساط العلمية.
أقول بأن الإعتراض وطرح الأسئلة والحجج والتفنيد هي طبيعة النقاشات العلمية وهي أيضا ما يعطي تلك الدراسات الصحيحة الزخم الذي يؤسس لقبولها لاحقا.
هذا في الجانب الإيجابي للنقاش, إلا أن هذه النقاشات قد يشوبها بعض المنغصات.
فالتصورات المسبقة والتي يتم على أساسها التكهن بنتائج معينة مبنية على فرضيات واستنتاجات عقلية بدهية قد يرمى بها في النقاش لتكون حاجزا وراء تقبل فكرة ما, وفي هذه الحالة فهي قد تسيء للنقاش.
الدكتور هيلا سيلاسي في التقرير يسترسل في كلامه ليقول بأنه قد آن الأوان لننظر في مراحل تطور الإنسان القديم بسعة أفق وألا ننستثني الأحافير التي لاتتوافق مع فرضيات باتت مسلمة.
وفي حديثه هذا معلومة مهمة, فالعلماء يميلون أحيانا لتبني تصورات وسيناريوهات لأشياء لم تكتشف ليؤسسون بها فرضيات تبقى في حيز البحث لحين إما التحقق منها أو تفنيدها, وهو شيء يبقى مقبولا إلا حين يكون محددا للنتائج.
تبادر لي وأنا أقرأ كلام الدكتور الأخير الفكرة الساذجة في مجال علم الأحياء التطورية والمتمثلة بالحلقة المفقودة التي بدأ الهوس بها في نهايات القرن التاسع عشر واستمرت لوقت طويل في الأوساط العلمية.
فقد وضع بعض العلماء تصور معين لسلف الإنسان مبني على فرضية أن تطور المخ في الجمجمة سبق تطور الفك.
وقد أدت هذه الفرضية –على الأقل في تصوري- إلى الحادثة الشهيرة والمعروفة بـ (Piltdown Man), وهي حادثة تعد بأنها أشهر عملية تزوير في مجال علم الأحافير والأحياء التطورية.
تمت الحادثة عام 1912 على يد عالم الأحافير شارلز دوسون (Charles Dawson) عندما زور جمجمة يحاكي بها الفرضية المطروحة لسلف الإنسان وقد ادعى ان عمالا وجدوا الجمجمة قبل الإعلان عنها بأربع سنين أثناء عملهم في الحفر في مقاطعة بيلتداون في انجلترا, وأنه جاء للموقع وعاين العينات بنفسه وقام بدراستها وتوصل إلى أنها تعود لسلف الإنسان الحديث.
وبالرغم من التشكيكات التي القيت على نتيجة البحث إلا أن موافقتها للتصور المبدأي واستعداد العلماء المسبق لتقبلها أكسبها الحصانة فتم تقبلها وتوثيقها وأصبحت حقيقة يبنى عليها, وظلت هكذا صامدة مدة 40 سنة إلى أن تم وضعها تحت المجهر ودراستها مخبريا عام 1953 ليتبين أنها عبارة عن توليفة من جمجمة بشرية لرجل من العصور الوسطى وفك سفلي لأورانغ أوتان عمره 500 عام وسن قديم لشيمبانزي, وضعت بعد تركيبها في محلول كيميائي لتزوير قدمها.
كان لهذا الكشف أثرا مدويا حينها, خصوصا وأن بعض العلماء يعزي إليها تضليل العلم والتسبب في تجاهل الكثير من الحقائق العلمية.
أما أهم مساهماتها التضليلية فهو المعارضة الشديدة للكشف الذي قام به عالم التشريح والأنثروبولوجي الأسترالي ريموند درات (Raymond Arthur Dart) عام 1924 في جنوب افريقيا والمتمثل بالعثور على بقايا عظام للـ (Australopithecus africanus) أما لماذا تمت معارضة الكشف؟
فقط لأنه يتعارض مع الفرضية التي وضعت مسبقا بأن سلف الإنسان لابد بأنه تطور على مستوى حجم المخ قبل تهيئة الفك لوظائف غذائية جديدة, بينما نموذج العالم دارت يشير إلى العكس.
نعود للكشف الجديد فقد أعطي لهذه السلالة ماقبل البشرية اسم (Australopithecus deyiremeda) أي أنها تندرج ضمن نوع الـ (Australopithecus) وحيث أننا لدينا للآن على الأقل ستة أفراد ضمن هذه العائلة التي بدأ تواجدها في القرن الإفريقي قبل 4 ملايين من السنين قبل أن تنقرض قبل مليوني سنة, فلا أستغرب أن يضاف لها فرد جديد أو حتى أفراد, بل إنني لن أستغرب لو تم العثور على بقايا لنوع آخر قد يكون امتدادا لنوع الـ (Ardipithecus) الأقدم والأقل تطورا, أو حتى نوع جديد لانعلم عنه شيئا البتة.
لكي أوضح كلامي قليلا, فقوى الطبيعة المؤثرة في الكائن الحي سواء منها الخارجية كنشاط الكائن ضمن السلسلة الغذائية وصراعه نحو البقاء, أو الداخلية المتمثلة بالطفرات الجينية والإنحراف الجيني جميعها تعمل بتناغم لتشكيل الكائن الحي, وقد أضيف هنا قوة لاتقل تأثيرا وهي التزاوج البيني (Interbreeding) التي حتما لها تأثير كبير في انبعاث أشكال مختلفة للكائن.
وللتذكير, فنخن نتكلم الآن عن الملايين من السنين, وما يبدأ بتغييرات شكلية ووظيفية طفيفة عبر آلاف قليلة من السنين حتما سوف يكون له تراكم كبير لهذه التغييرات عبر مئات الآلاف منها.
لاننسى أيضا أن تشكل السلالات ماقبل البشرية والبشرية بدأ قبل حوالي 6 ملايين من السنين أي نهاية عصر المايوسين مرورا بالبلايوسين وحتى البلايستوسين, وأن في هذه العصور حدثت تغيرات مناخية كبيرة على وجه الأرض وبالخصوص في المساحات الضيقة التي شهدت تطور أسلاف الإنسان, فمن تعاظم للصدع الإفريقي العظيم نهاية المايوسين وتشكيله لجدار يفصل القرن الإفريقي موطن تطور الأسلاف عن باقي أراضي وسط إفريقيا وتسببه في تكون السفانا الإفريقية شرق الصدع. ومرورا ببدء الترددات الكبيرة لزحف الجليد على وجه الأرض والتي واكبت بداية البلايستوسين قبل 2.5 مليون سنة.
كما أن الآثار التي وجدت في جنوب افريقيا لنوع الأوسترالوبيثيكوس تفيد بأن هذا النوع قد تمكن من التوغل بعيدا عن القرن الإفريقي نحو الغابات المطرية الإستوائية ووصولا إلى أقصى الجنوب, وفي هذا توسيع لدائرة المؤثرات الطبيعية التي واجهتها السلالات البشرية القديمة.
هذه كلها قوى كفيلة بأن يكون لها تأثيرات واضحة على جميع الكائنات الحية وليس فقط السلالات البشرية, وبالتالي فبرأيي المتواضع وخصوصا مع تطور العلم وتقنياته نحن مقبلون على الكثير من الكشوف الجديدة اللافتة والهامة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق