الأربعاء، 21 سبتمبر 2016

(مدن تتنفس الشعر)




سياحة في عالم المهرجانات الثقافية العالمية، مهرجان "مدينة أيوا الثقافي" نموذجاً..

كاظم الخليفة

"المقدمة.. انكشاف الدهشة":
عادة ما تعبر المدن عن هويتها العامة من خلال موقعها الجغرافي أو بمقدار ما تمتلكه من موارد طبيعية، ولكن عندما تصبح الثقافة والادب هي القيمة التي تحاول إبرازها، فهي تصنع ميزة تنافسية حضارية بامتياز.
فمدينة "أيوا" والواقعة في إقليم الغرب الأوسط للولايات المتحدة الامريكية اكتسبت صفة العاصمة الأدبية للولايات المتحدة منذ زمن طويل، وكذلك صنفتها منظمة اليونسكو ضمن أفضل المدن المبدعة في العالم، والأحدث كمدينة للأدب بعد أدنبره الإسكتلندية وملبورن الأسترالية.
الحداثة في تصنيف اليونسكو قد تتخذ المعنى الزمني، أو يمكن استيعابه من خلال الوعي الحضاري ومفهوم الحداثة كسياق فلسفي وفكري معاصر.
فهذه المدينة "أيوا" قد اتخذت مسماها من نهر ايوا، وهو بالمناسبة أسم النهر الذي يخترقها وهو كذلك لقب القبيلة الرئيسية للهنود الحمر الذين استوطنوا هذه المنطقة قديما ويعني "رأس الصقر"، لديها مهرجانها الشعري والذي يمتد من شهر أبريل حتى حزيران، حينها لا صوت يعلوا فوق صوت الشعر الذي يحتل جميع الأمكنة من الساحات العامة ووسائل المواصلات والقاعات الدراسية في الجامعات والمدارس الابتدائية، وكذلك هو الإعلان المبكر عن طلب المشاركة في المهرجان وشروط المسابقة والذي تجده أينما تجولت في أنحاء المدينة.
الشروط بسيطة، والمهم فيها أن تكون مقيماً في المدينة ولديك القدرة على كتابة الشعر والقاءه، على أن لا يتعدى السبعة أسطر. وطلب إضافي من أساتذة المدارس الابتدائية لكي يساعدوا الشعراء الصغار إملائيا فقط.
تزامن اطلاعي على الإعلان يوم انتهاء إرسال المشاركات (٧ فبراير)، والإعلان يوجه الى موقع اللجنة الثقافية في المدينة على موقعها في الإنترنت، ومن خلاله تجد المشاركات الشعرية للأعوام السابقة والتي تبوب المشاركات الى قسمين: الشعراء الأطفال، والقسم الآخر للبالغين.
أدركني الفضول للدخول أولاً إلى قسم الأطفال والذي فاجأني بوجود مشاركتين لأطفال عرب كتبوا شعرهم باللغة الانجليزية و دخلوا ضمن القائمة المميزة للشعراء الأطفال لعام ٢٠١٢ وهم حسن أحمد ذو الستة عشر ربيعاً ويوسف بدر وكان وقتها في الثالثة عشر من عمره.
القصيدة الأولى للشاعر حسن أحمد تعبر عن هواجس الانصهار في مجتمع غربي بعيد عن ثقافته العربية الموروثة، وكذلك تأتي نتيجة لتداعيات الحادي عشر من سبتمبر وتهمة الإرهاب، فكيف عبر الشاعر الصغير عن مخاوفه، وكذلك عن نظرته لمفهوم المجتمع الأمريكي المتعدد الأعراق والأصول؟


"الفأر الروسي المهاجر":
يتخذ الشاعر حسن أحمد من شخصية الفيلم الكرتوني، والذي أنتج في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، كان من اخراج "دان بلوث، عنواناً لقصيدته، حيث تتناول قصة ذلك الفيلم عائلة من الفئران مكونة من خمسة أفراد هاجروا من روسيا الى الولايات المتحدة طلباً للحرية، وفي أثناء الرحلة، يتوه الفأر البطل والمسمى ب"الذيل الحقيقي" عن عائلته في مغامرة شيقة. لذلك يستوحي الشاعر  من حكاية هذا الفيلم للتعبير عن مفهومه للهجرة واكتساب جنسية هذه البلاد "امريكا"، فيقول:
(هل يخيفك أسمي، ولقب عائلتي؟
لو كان هذا هو لقبك فهل يشعرك بالخزي؟
وهل تقاسمني العيش في بلادك الحرة؟
نحن جميعاً مهاجرون، لذلك لا أطلب منك الإذن.
ولا تطلب مني العودة الى المكان الذي قدمت منه، لأنه ببساطة ينطبق عليك  الأمر نفسه.
 لذا يمكننا العيش بسلام كمواطنين.)

هذه الحساسية العرقية و المبكرة لدى الشاعر الطفل العربي حسن، تجد ما يشابهها من حساسية لدى طفل غربي مماثل، وان كان يتحدث عن لون الشعر كما هي قصيدة الشاعر الطفل "أيلي بورمبا" ذو السبعة أعوام حين يقول في قصيدته "شَعري":
شعري غابة بنية.
و ليس لها مخارج.
وهي لا تمكنني من الخروج.
لا يهم.. أنا حالياً في الصف، ومعلمي يقول لي عد الى درسك.

أما الشاعر العربي الآخر "يوسف بدر"، فهو لا يتخذ من الحساسية العرقية موضوعاً لقصيدته، ويتحدث كأي طفل أمريكي عن ما قد يشغله ويحوز على اهتمامه في هذه اللحظة، مثل التهام فطيرة لذيذة في صباحات أيام عطلة الأسبوع، لذا هو يقول في قصيدته "الفطيرة":
(الفطائر يوم الأحد خفيفة، رقيقة ولذيذه.
والدي أعدها بطريقة سريعة.
و كنت أكثر منه سرعة عند التهامها.)

"الخاتمة.. تباين المثال وواقعنا المحلي":
هذه هي الفضاءات الشعرية والتي تحتفي بها المدينة وتميز نفسها عن بقية المدن في العالم كراعية للآداب والكتابة، وان كانت هناك مدن أخرى في العالم قد أحتفت بالشعر كمدينة "لوديف" في جنوب فرنسا والتي تستقطب الشعراء من  دول حوض المتوسط. خصوصية مدينة أيوا في أن الشعر الذي تمتلئ به يأتي من مخزونها المحلي ، بينما لوديف تستقطبه من الفضاء العالمي حيث  حضيت بالكثير من المشاركات الشعرية، وبالخصوص السعودية منها لأسماء مهمة مثل احمد الملا وعبدالله ثابت وإبراهيم الحسين.. ومحمد الحرز، والذي تحدث عن معنى هذه المشاركات في الأجواء المفتوحة والميادين العامة الشبيهة بمهرجان أيوا الشعري، والذي أختتم به مقالتي هذه:
(لقد كانت تربيتنا الشعرية الموروثة لا تهتم بالشعر نفسه بالقدر الذي تهتم فيه بالممارسات المصاحبة له .. فقوة الإنشاد، وضخامة الحضور، والاهتمام بالشخصيات المهمة في مقدمة الجلوس، ترتيب الحضور ترتيبا محكما وكأنك جالس في مؤسسة نظامية لا في مكان تستمع فيه للشعر.. والأكثر ظلما للشعر مع كل ذلك أن ينشد في أماكن مغلقة تماما.. عكس الأمسيات التي تلقى في هذا المهرجان، فنادرا ما تقام الأمسيات في أماكن مغلقة، دائما ما يكون الشعر معانقا الفضاء الرحب ولا ثمة عوائق تمنعه من الوصول إلى الطبيعة.. ألا يجدر بنا أن نتعلم القدرة على فتح النوافذ على آخرها كي يتجدد الشعر أولا ثم نتجدد معه؟!)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق