عادل البشراوي
كثيرا ما أصادف في مطالعاتي على الشبكة العنكبوتية نقاشات حادة بين ملحدين ومتدينين وحقيقة تستفزني الآراء المطروحة ومن الجانبين.
أجد واقعا بأن الطرفين يعانيان من ضيق الأفق الثقافي والتاريخي للأديان ولطبيعة الفطرة البشرية.
ولكي لا أسهب في الحواشي دعوني أركز على آراء الطرف الملحد هنا ولعلي أخصص مقالا آخر أتحدث فيه عن الطرف الآخر المتدين.
وجدت في طبيعة الإشكالات التي يلقي بها الملحدون استساغتهم لطرح أسئلة ثقيلة وغير مجدية في الحوار وخلصت لنتيجة بأن الهدف منها قد لايكون الإقناع بقدر مايكون توريط الطرف الآخر وإفحامه وإن بأسئلة قد لاتكون واردة في السياق.
لأوضح، نحن نعلم أن هناك محدودية للوعي البشري - قلت وعيا ولم أقل ذكاءا لأعم الوصف- وبذا فليس هناك من داع لمعرفة أسرار الكون كلها من أجل أن أتمكن من معرفة أن لهذا الكون خالق وأنه خلقني وأمرني بعبادته.
وهنا أود أن يكون نقاشي متجرد وحيادي لكي أتمكن من التوصل لمفهوم قد يستفيد منه القاريء الذي يعاني من بعض الشكوك, فأقول أن هناك شعور غريزي لدى البشر يحملهم على معرفة وجود الإله وهو فيما أعتقد شيء فطري تماما كتلك الفطرة التي ترشدنا إلى معرفة أن الكذب سيء والصدق جيد، كما أن السرقة عمل مستهجن بينما العطف على المحتاج صفة كريمة.
وهناك دلائل أركيولوجية وفي أماكن عدة تثبت أن رجل النيانديرتال (سلالة بشرية منقرضة) كانت له طقوس روحية كشكل من أشكال العلاقة مع كيان خارق للطبيعة (Supernatural) وكان ذلك قبل أكثر من 50 ألف سنة، وقد تصل في القدم إلى أكثر من ذلك بكثير, وهذا دليل قدم لهذه الغريزة.
فالإنسان ابتداءا يشعر أن هناك آلهة ويرى حاجة في الإتصال بها، لكن وعيه المحدود لايكفيه للتوصل لماهية هذه الآلهة والكيفية التي يجب عليه اتباعها للتواصل معها.
وقد تعرفنا من خلال قراءتنا للتاريخ الاختلاف الكبير بين الأمم والحضارات السابقة في رؤيتها للآلهة والطقوس التي تقوم بها للعبادة وتقديم القرابين.
ما أريد قوله هو أن هناك أمران محددان في هذا النقاش، الأول هو الغريزة التي تشعر البشر بوجود الإله، والثاني هو صعوبة التوصل لحقيقة الإله دون إرشاد.
والمرشد هنا هو الرسول الذي يهيئه الإله ويرسله بمايفيد البشر ويحتاجونه في أمور عيشهم والسبل المثلى للتعامل مع إخوانهم ومحيطهم ويتم هذا الإرشاد بالإسلوب والمفاهيم التي تناسب عقول هؤلاء البشر.
فكما نعلم أن وعي البشر قد تطور كثيرا عما كانوا عليه قبل ألوف السنين، وكان ذلك بسبب المراكمة المعرفية لا لتطور بايولوجي.
وحقيقة فإن هذا الطرح ليس وقفا على معرفة تعاليم الدين فالإنسان لايستطيع عادة أن يتعلم بذاته, فهو يحتاج لدور المعلم ولهذا فنحن نذهب للمدرسة والجامعة.
بالعودة لموضوعنا فنحن نؤمن أن الرسالات السماوية بدأت منذ القدم وأخذت أطروحاتها تتطور وتترقى مع كل رسول يأتي إلى أن وصلت في ذروتها لرسالة محمد صلى الله عليه وآله، هكذا نحن نقول مع احترامنا وتقديرنا وكل حبنا لجميع المعتقدات الأخرى وخصوصا أهلنا وأشقائنا وشركاء أوطاننا وقوميتنا المسيحيين.
كان التوجه للبحث عن الخالق هو الأصل وقد تأكد مع رسالات الرسل، وحينها لم يكن ملحا كل هذه الأسئلة عن معرفة كينونة الخالق وكيف بدأ وأين كان قبل الخلق.
نعم كانت هناك تساؤلات ولكن الحاحها كان أقل من أن يثبط الغريزة وذلك لسبب سهل وهو البساطة المعرفية التي كان يتحلى بها الأوائل، فمع الإرتقاء المعرفي يرتقي معه الإدراك وكم التساؤلات التي تتبادر الفكر.
أما الآن ومع هذا الكم المعرفي الذي بلغناه أصبح هناك ولدى الكثير من الناس أساس قوي لهذه التساؤلات في أن تناويء الغريزة ومعها كم هائل مما قد يفهم أنها دلائل تعارض فكرة الخالق والمعبود, ولهذا خلص بعض الوجوديون إلى القول بأن الدين كان حاجة لدى الأمم المتخلفة أما الآن فليس له حاجة.
لكنني أجد أسبابا أخرى كثيرة تفرض هذا الواقع أهمها جمود المؤسسات الدينية وتخلفها. فمع دخول أوروبا عصور الظلام بداية القرن الخامس الميلادي تأخر الحراك العلمي وتوقفت تعاليم الكنيسة عند مفاهيم أغلب منشأها روايات العهد القديم وظلت كذلك رغم الفسحة التي سنحت في المشرق العربي الذي حمل لواء الفكر والبحث العلمي إلى أن جمد هو الآخر في القرن الرابع عشر وبداية عصر التنوير.
وكان لجمود المؤسستين المسيحية والإسلامية تأثيرا كبيرا مع بزوغ عصر النهضة الذي تشكل فيه أساس الحضارة الحالية. فقد شكل أسلوب التصدي الكنسي مع مخرجات العلم نفورا كبيرا لدى طبقة العلماء والمثقفين مادفع بشريحة كبيرة منهم للكفر بالدين ومحاربة تعاليم المؤسسة الدينية، وهو شيء أجد فيه الكثير من المنطقية فمن قرأ سير كبرنيكوس وجاليليو ونهاية جوردانو برونو المأساوية لن يخرج بغير الكراهية لرجال الدين ومن ورائهم الدين والإله.
في هذا الجو ومع حلول الثورة الصناعية بداية القرن الثامن عشر كان صيت وهيبة الكنيسة في تراجع وقد تأكد حالها هذا مع الثورة الفرنسية التي أطاحت بسلطة الملك والكنيسة، وقد تكرس إثرها البعد عن الدين وانتشار الإلحاد الذي وإن كان قديما إنما تأسس له في تلك الفترة دلائل علمية تأصل انتشاره.
فمن يقرأ في نظرية الأحياء التطورية ويبحث في مخرجاتها التي تتناول بعض الأحافير التي وجدت في طبقات جيولوجية تعود إلى عشرات الملايين من السنين لايمكن له أن يعتنق دينا يكفره إذا لم يؤمن بأن عمر الكون لايتجاوز الستة آلاف وخمسمائة سنة كما هو منصوص عليه في العهد القديم (التوراة).
واقعا كانت هذه المواجهة الملحمية بين العلم والتعاليم الكنسية هو ما جعل داروين يتردد كثيرا في نشر تصوره لنظرية التطور وهو تصور يقول أنه قد توصل إليه مباشرة بعد انتهائه من رحلة البيقل (Voyage of The Beagle) عام 1836 إنما لم تمكنه شجاعته من نشر مؤلفيه أصل الأنواع والإنتخاب الطبيعي إلا في 58 و 59 من نفس القرن. كل ذلك إثر خوفه من المواجهة المرتقبة، حتى أنه تحرج كثيرا في البوح عما إذا كان ملحدا أم لا واكتفى بقوله أنه مشكك (Agnostic).
وبالمناسبة فقد عد البعض أن القرنين الثامن والتاسع عشر على أنهما عصري الإلحاد الذهبي.
في رأيي المتواضع أجد أن وضعنا اليوم وبالرغم من التسارع الشديد الذي تشهده وتيرة الكشوف العلمية إلا أن عقيدة الإلحاد تواجه صعوبة في البقاء, وحقيقة ليس لدي تبريرا ناجعا لهذا الواقع, إلا أنني قد أوفق حين أقول بأن السبب عائد إلى أن هناك جيل جديد من معتنقي الأديان الذين تمكنوا من التعلم وخوض غمار المعرفة ففهموها وناقشوا فهمهم على أساس نقاشات دينية جديدة تنحي الموروث الديني الجامد وخصوصا روايات العهد القديم في المسيحية والإسرائيليات في الإسلام لتخرج بصيغة أقرب لتعاليم الدين الأصل والتي تحث على التعلم.
وقد وجد هؤلاء نصوصا دينية تتوائم مع مفهوم التطور البيولوجي ونظرية تكون الكون قبل أقل من 14 مليار سنة بقليل. ولو نلاحظ فهناك مؤخرا الكثير من المحسوبين على الدين من يتصدى لنقاش هذه النظريات.
إلا أنني لازلت أقول بأن المامنا بالعلم والمعرفة مهما ارتقى يبقى محدودا ولايزال لايتوفر لدينا الإجابة على أسئلة كثيرة كالسؤال القائل: أين كان الخالق قبل خلق الكون؟
ولكنني قد أتجرأ برد السؤال فأقول لماذا نتوقع حاجة الخالق لفراغ مادي هو أصلا مخلوق ليكون فيه؟
حتى أن إدراكنا القائم على مفاهيم مادية مخلوقة لايمكننا من الخوض في أمور خارج هذه المفاهيم المخلوقة. فالخالق سبحانه هو الذي وضع القوانين بمافيها قوانين الفيزياء والكيمياء وكل نواميس الكون الذي تحدد صيرورته.
وكخلاصة ألا يجب أن نستفيد من قراءتنا للتاريخ ومعرفتنا لمماحكات السابقين الجدلية التي تردنا وتفيد بأن محدودية ادراك البشر كانت دائما تقف أمام أسئلة أقل رقيا مما نطرحه ليخلصوا لأمور تثير فينا روح الفكاهة حين نتناولها اليوم!!
أم أننا تأكدنا بأنا قد بلغنا أرومة العلم والمعرفة فصرنا قادرين على مناقشة مكنون الخالق سبحانه؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق